سورة الرعد - تفسير تفسير الخازن

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الرعد)


        


قوله عز وجل: {آلمر} قال ابن عباس رضي الله عنهما: معناه أنا الله أعلم وأرى. وروى عطاء عنه أنه قال: إن معناه أنا الله الملك الرحمن {تلك آيات الكتاب} الإشارة بتلك الى آيات السورة المسماة بالمر، والمراد بالكتاب السورة أي آيات السورة الكاملة العجيبة في بابها ثم قال تعالى: {والذي أنزل إليك من ربك الحق} يعني من القرآن كله هو الحق الذي لا مزيد عليه، وقيل المراد بالإشارة في قوله: {تلك} الأخبار والقصص أي الأخبار والقصص التي قصصتها عليك يا محمد هي آيات التوراة والإنجيل والكتب الإلهية القديمة المنزلة، والذي أنزل إليك يعني وهذا القرآن الذي أنزل إليك يا محمد من ربك الحق أي هو الحق فاعتصم به وقال ابن عباس وقتادة: أراد بآيات الكتاب القرآن، والمعنى: هذه آيات الكتاب الذي هو القرآن ثم قال: والذي أنزل إليك من ربك الحق يعني: وهذا القرآن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق لا شك فيه ولا تناقض {ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} يعني مشركي مكة نزلت هذه الآية في الرد عليهم حين قالوا إن محمداً يقوله من تلقاء نفسه، ثم ذكر من دلائل ربوبيته وعجائب قدرته ما يدل على وحدانيته فقال تعالى: {الله الذي رفع السماوات بغير عمد} جمع عمود وهي الأساطين والدعائم التي تكون تحت السقف وفي قوله: {ترونها} قولان أحدهما أن الرؤية ترجع إلى السماء يعني: وأنتم ترون السماوات مرفوعة بغير عمد من تحتها يعني ليس من دونهما دعامة تدعمها ولا من فوقها علاقة تمسكها، والمراد نفي العمد بالكلية. قال إياس بن معاوية: السماء مقبية على الأرض مثل القبة، وهذا قول الحسن وقتادة وجمهور المفسرين، وإحدى الروايتين عن ابن عباس. والقول الثاني: إن الرؤية ترجع الى العمد، والمعنى أن لها عمداً ولكن لا ترونها أنتم، ومن قال بهذا القول يقول: إن عمدها على جبل قاف، وهو جبل من زمرد محيط بالدنيا، والسماء عليه مثل القبة، وهذا قول مجاهد وعكرمة والرواية الأخرى عن ابن عباس، والقول الأول أصح، وقوله تعالى: {ثم استوى على العرش} تقدم تفسيره والكلام عليه في سورة الأعراف بما فيه كفاية {وسخر الشمس والقمر} يعني ذللهما لمنافع خلقه فهما مقهوران، يجريان على ما يريد {كلُّ يجري لأجل مسمى} يعني إلى وقت معلوم، وهو وقت فناء الدنيا وزوالها. وقال ابن عباس: أراد بالأجل المسمى درجاتهما ومنازلهما يعني أنهما يجريان في منازلهما ودرجاتهما الى غاية ينتهيان إليها ولا يجاوزانها، وتحقيقه أن الله تعالى جعل لكل واحد من الشمس والقمر سيراً خاصاً إلى جهة بمقدار خاص من السرعة والبطء في الحركة، {يدبر الأمر} يعني أنه تعالى يدبر أمر العالم العلوي والسفلي، ويصرفه ويقضيه بمشيئته، وحكمته، على أكمل الأحوال لا يشغله شأن عن شأن، وقيل: يدبر الأمر بالإيجاد والإعدام والإحياء والإماتة، ففيه دليل على كمال القدرة والرحمة، لأن جميع العالم محتاجون إلى تدبيره ورحمته، داخلون تحت قهره وقضائه وقدرته {يفصل الآيات} يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، وقيل: إن الدلائل الدالة على وجود الصانع قسمان: الأول: الموجودات المشاهدة، وهي خلق السماوات والأرض وما فيهما من العجائب وأحوال الشمس والقمر وسائر النجوم وهذا قد تقدم ذكره.
والقسم الثاني: الموجودات الحادثة في العالم، وهي الموت بعد الحياة والفقر بعد الغنى والضعف بعد القوة إلى غير ذلك من أحوال هذا العالم، وكل ذلك مما يدل على وجود الصانع وكمال قدرته {لعلكم بلقاء ربكم توقنون} يعني أنه تعالى يبين الآيات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته لكي توقنوا، وتصدقوا بلقائه والمصير إليه بعد الموت لأن من قدر على إيجاد الإنسان بعد عدمه قادر على إيجاده وإحيائه بعد موته، واليقين صفة من صفات العلم، وهو فوق المعرفة والدراية وهو سكون الفهم مع ثبات الحكم وزوال الشك، يقال منه استيقن وأيقن بمعنى علم.


قوله تعالى: {وهو الذي مد الأرض} لما ذكر الدلالة على وحدانيته وكمال قدرته وهي رفع السمأوات بغير عمد، وذكر أحوال الشمس والقمر أردفها بذكر الدلائل الأرضية، فقال: وهو الذي مد الأرض أي بسطها على وجه الماء، وقيل: كانت الأرض مجتمعة فمدها من تحت البيت الحرام، وهذا القول إنما يصح إذا قيل إن الأرض منسطحة كالأكف، وعند أصحاب الهيئة: الأرض كرة، ويمكن أن يقال: إن الكرة إذا كانت كبيرة عظيمة فإن كل قطعة منها تشاهد ممدودة كالسطح الكبير العظيم، فحصل الجمع ومع ذلك فالله تعالى قد أخبر أنه مد الأرض، وأنه دحاها وبسطها وكل ذلك يدل على التسطيح والله تعالى أصدق قيلاً وأبين دليلاً من أصحاب الهيئة {وجعل فيها}. يعني في الأرض {رواسي} يعني جبالاً ثابتة، يقال: رسا الشيء يرسو إذا ثبت وأرساه غير أثبته قال ابن عباس: كان أبو قبيس أول جبل وضع على الأرض {وأنهاراً}، يعني وجعل في الأرض أنهاراً جارية لمنافع الخلق {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} يعني صنفين اثنين أحمر وأصفر وحلواً وحامضاً {يغشي الليل النهار}، يعني يلبس النهار ظلمة الليل ويلبس الليل ضوء النهار {إن في ذلك} يعني الذي تقدم ذكره من عجائب صنعته وغرائب قدرته الدالة على وحدانيته {لآيات} أي دلالات {لقوم يتفكرون} يعني فيستدلون بالصنعة على الصانع، وبالسبب على المسبب، والفكر هو تصرف القلب في طلب الأشياء، وقال صاحب المفردات: الفكر قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جريان تلك القوة بحسب نظر العقل، وذلك للإنسان دون الحيوان، ولا يقال إلا فيما يمكن أن يحصل له صورة في القلب ولهذا روي «تفكروا في آلاء الله ولا تفكروا في الله» إذ كان الله منزلها أن يوصف بصورة. وقال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لأنه يستعمل في طلب المعاني، وهو فرك الأمور وبحثها طلباً للوصول الى حقيقتها. قوله عز وجل: {وفي الأرض قطع متجاورات} يعني متقاربات بعضها من بعض، وهي مختلفة في الطبائع فهذه طيبة تنبت وهذه سبخة لا تنبت، وهذه قليلة الريع وهذه كثيرة الريع {وجنات} يعني متقاربات بعضها من بعض، وهي مختلفة في الطبائع فهذه طيبة تنبت وهذه سبخة لا تنبت، وهذه قليلة الريع وهذه كثيرة الريع {وجنات} يعني بساتين والجنة كل بستان ذي شجر من نخيل وأعناب وغير ذلك، سمي جنة لأنه يستر بأشجاره الأرض وإليه الإشارة بقوله: {من أعناب وزرع ونخيل صنوان} جمع صنو وهي النخلات يجتمعن من أصل واحد، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عمه العباس «عم الرجل صنو أبيه» يعني أنهما من أصل واحد {وغير صنوان} هي النخلة المنفردة بأصلها فالصنوان المجتمع، وغير الصنوان المتفرق {يسقى بماء واحد} يعني أشجار الجنات وزروعها، والماء جسم رقيق مائع به حياة كل نام، وقيل: في حده جوهر سيال به قوام الأرواح؛ {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} يعني في الطعم ما بين الحلو والحامض والعفص وغير ذلك من الطعام.
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم «في قوله تعالى: {ونفضل بعضها على بعض في الأكل} قال: الدقل والنرسيان والحلو والحامض» أخرجه الترمذي، وقال: حديث حسن غريب. قال مجاهد: هذا كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد، وقال الحسن: هذا مثل ضربه الله لقلوب بني آدم كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن فسطحها فصارت قطعاً متجاورات، وأنزل على وجهها ماء السماء فتخرج هذه زهرتها وثمرتها وشجرها، وتخرج هذه نباتها وتخرج هذه سبخها وملحها وخبيثها وكل يسقى بماء واحد فلو كان الماء قليلاً. قيل: إنما هذا من قبل الماء كذلك الناس خلقوا من آدم فينزل عليهم من السماء تذكرة فترق قلوب قوم فتخشع وتخضع وتقسو قلوب قوم فتلهو، ولا تسمع. وقال الحسن: والله ما جالس القرآن أحد إلا قام من عنده بزياده أو نقصان قال الله تعالى: {وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} وقوله تعالى: {إن في ذلك} يعني الذي ذكر {لآيات لقوم يعقلون} يعني فيتدبرون ويتفكرون في الآيات الدالة على وحدانيته. قوله تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم} العجب تبعيد النفس رؤية المستبعد في العادة، وقيل: العجب حالة تعرض للإنسان عند الجهل بسبب ولهذا قال بعض الحكماء: العجب ما لا يعرف سببه ولهذا قيل: العجب في حق الله محال لأنه تعالى علاّم الغيوب لا تخفى عليه خافية، والخطاب في الآية للنبي صلى الله عليه وسلم ومعناه وإنك يا محمد إن تعجب من تكذيبهم إياك بعد أن كنت عندهم تعرف بالصادق الأمين فعجب أمرهم، وقيل: معناه وإن تعجب من اتخاذ المشركين ما لا يضرهم ولا ينفعهم آلهة يعبد ونها مع إقرارهم بأن الله تعالى خالق السماوات والأرض، وهو يضر وينفع وقد رأوا من قدرة الله وما ضرب لهم به الأمثال ما رأوا فعجب قولهم. وقيل وإنك إن تعجب من إنكارهم النشأة الآخرة والبعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله فعجب قولهم وذلك أن المشركين كانوا ينكرون البعث بعد الموت مع إقرارهم بأن ابتداء الخلق من الله وقد تقرر في النفوس أن الإعادة أهون من الابتداء فهذا موضع التعجب وهو قولهم {أئذا كنا تراباً} يعني بعد الموت {أئنا لفي خلق جديد} يعني نعاد خلقاً جديداً بعد الموت كما كنا قبله ثم إن الله تعالى قال في حقهم {أولئك الذين كفروا بربهم} وفيه دليل على أن كل من أنكر البعث بعد الموت فهو كافر بالله تعالى، لأن من أنكر البعث بعد الموت فقد أنكر القدرة وأن الله على كل شيء قدير، ومن أنكر ذلك فهو كافر {وأولئك الأغلال في أعناقهم} يعني يوم القيامة، والأغلال جمع غل وهو طوق من حديد يُجعل في العنق.
وقيل أراد بالأغلال ذلهم وانقيادهم يوم القيامة كما يقاد الأسير ذليلاً بالغل {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} يعني أنهم مقيمون فيها ولا يخرجون منها ولا يموتون. {ويستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة} الاستعجال طلب تعجيل الأمر قبل مجيء وقته، والمراد بالسيئة هنا هي العقوبة وبالحسنة العافية، وذلك أن مشركي مكة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم، وهو قولهم {اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم} {وقد خلت من قبلهم المثلات} يعني وقد مضت في الأمم المكذبة العقوبات بسبب تكذيبهم رسلهم، والمثلة بفتح الميم وضم الثاء المثلثة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثلاً ليرتدع غيره به، وذلك كالنكال وجمعه مثلات بفتح الميم وضمها مع ضم الثاء فيهما لغتان {وإن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم} قال ابن عباس: معناه إنه لذو تجاوزٍ عن المشركين إذا آمنوا {وإن ربك لشديد العقاب} يعني للمصرين على الشرك الذي ماتوا عليه. وقال مجاهد: إنه لذو تجاوز عن شركهم في تأخير العذاب عنهم، وإنه لشديد العقاب إذا عاقب. قوله تعالى: {ويقول الذين كفروا} يعني من أهل مكة {لولا} أي هلاّ {أنزل عليه} يعني على محمد صلى الله عليه وسلم {آية من ربه} يعني مثل عصى موسى وناقة صالح ذلك لأنهم لم يقنعوا بما رأوا من الآيات التي جاء بها النبي صلى الله عليه وسلم {إنما أنت منذر} أي ليس عليك يا محمد غير الإنذار والتخويف، وليس لك من الآيات شيء {ولكل قوم هاد} قال ابن عباس: الهادي هو الله، وهذا قول سعيد ابن جبير وعكرمة ومجاهد والضحاك والنخعي، والمعنى إنما عليك الإنذار يا محمد والهادي هو الله يهدي من يشاء. وقال عكرمة في رواية عنه وأبو الضحى: الهادي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم المعنى: إنما أنت منذر وأنت هاد، وقال الحسن وقتادة وابن زيد: يعني ولكل قوم نبي يهديهم وقال أبو العالية: الهادي هو العمل الصالح. وقال أبو صالح: الهادي هو القائد إلى الخير لا إلى الشر.


قوله عز وجل: {الله يعلم ما تحمل كل أنثى} لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الآيات أخبرهم الله عز وجل عن عظيم قدرته، وكمال علمه وأنه عالم بما تحمل كل أنثى يعني من ذكر أو أنثى سويّ الخلق أو ناقص الخلق واحداً أو اثنين أو كثر {وما تغيض} يعني وما تنقص {الأرحام وما تزداد} قال أهل التفسير: غيض الأرحام الحيض على الحمل فإذا حاضت الحامل كان ذلك نقصاناً في الولد لأن دم الحيض هو غذاء الولد في الرحم، فإذا خرج الدم نقص الغذاء فينقص الولد، واذا لم تحض يزداد الولد ويتم فالنقصان نقصان خلقة الولد بخروج الدم، والزيادة تمام خلقه باستمساك الدم، وقيل: إذا حاضت المرأة في وقت حملها ينقص الغذاء وتزداد مدة الحمل حتى تستكمل تسعة أشهر طاهرة فإن رأت خمسة أيام دماً، وضعت لتسعة أشهر وخمسة أيام فالنقصان في الغذاء زيادة في مدة الحمل. وقيل: النقصان السقط والزيادة تمام الخلق. وقال الحسن: غيضها نقصانها من تسعة اشهر والزيادة زيادتها على تسعة اشهر فأقل مدة الحمل ستة أشهر وقد يولد لهذه المدة ويعيش. واختلفوا في أكثره فقال قوم: أكثر مدة الحمل سنتان، وهو قول عائشة، وبه قال أبو حنيفة وقيل: إن الضحاك ملد لسنتين. وقال جماعة: أكثرها أربع سنين وإليه ذهب الشافعي. وقال حماد بن أبي سلمة: إنما سمي هرم بن حيان هرماً لأنه بقي في بطن أمه أربع سنين، وعند مالك أن أكثر مدة الحمل خمس سنين {وكل شيء عنده بمقدار} يعني بتقدير واحد لا يجاوزه، ولا ينقص منه. وقيل: إنه تعالى يعلم كمية كل شيء وكيفيته على أكمل الوجوه. وقيل: معناه إنه تعالى خصص كل حادثة من الحوادث بوقت معين وحالة معينة وذلك بمشيئته الأزلية وإرادته وتقديره الذي لا يقدر عليه غيره {عالم الغيب والشهادة} يعني أنه تعالى يعلم ما غاب عن خلقه، وما يشاهدونه. وقيل: الغيب هو المعدوم والشاهد هو الموجود. وقيل: الغيب ما غاب عن الحس والشاهد ما حضر في الحس {الكبير} أي العظيم الذي يصغر كل كبير بالإضافة إلى عظمته وكبريائه فهو يعود إلى معنى كبر قدرته، وأنه تعالى المستحق لصفات الكمال {المتعال} يعني المنزه عن صفات النقص المتعالي عن الخلق، وفيه دليل على أنه تعالى موصوف بالعلم الكامل والقدرة التامة وتنزيهه عن جميع النقائص. قوله تعالى: {سواء منكم من أسرَّ القول ومن جهر به} أي مستو منكم من أخفى القول وكتمه ومن أظهره وأعلنه، والمعنى أنه قد استوى في علم الله تعالى المسرّ بالقول والجاهر به {ومن هو مستخف بالليل} أي مستتر بظلمته {وسارب بالنهار} أي ذاهب بالنهار في سربه ظاهر.
والسرب بفتح السين وسكون الراء الطريق. وقال القتيبي: السارب المتصرف في حوائجه. قال ابن عباس في هذه الآية: هو صاحب ريبة مستخف بالليل، وإذا خرج بالنهار أرى الناس أنه بريء من الإثم. وقيل: مستخف بالليل ظاهر من قولهم خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا كتمته وسارب بالنهار أي متوارٍ دخل في السرب مستخفياً، ومعنى الآية: سواء ما أضمرت به القلوب أو نطقت به الألسن، وسواء من أقدم على القبائح مستتراً في ظلمات الليل أو أتى بها ظاهراً في النهار فان علمه تعالى محيط بالكل {له معقبات} يعني: لله ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار، فإذا صعدت ملائكة الليل عقبتها ملائكة النهار والتعقيب العود بعد البدء وإنما ذكر معقبات بلفظ التأنيث، وإن كان الملائكة ذكوراً لأن واحدها معقب، وجمعها معقبة ثم جمع المعقبة معقبات. كما قيل أبناوات سعد ورجالات بكر.
(ق) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يتعقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم، كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون، وأتيناهم وهم يصلون. وقيل: إن مع كل واحد من بني آدم ملكين ملك عن يمينه، وهو صاحب الحسنات وملك عن شمال وهو كاتب السيئات وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات فإذا عمل العبد حسنة كتبها له بعشر أمثالها، وإذا عمل سيئة قال صاحب الشمال لصاحب اليمين أكتبها عليه فيقول: انظره لعله يتوب أو يستغفر فيستأذنه ثلاث مرات، فإن هو تاب منها وإلا قال: اكتبها عليه سيئة واحدة وملك موكل بناصية العبد فإذا تواضع العبد لله عز وجل رفعه بها، وإن تجبر على الله عز وجل وضعه بها وملك موكل بعينيه يحفظهما من الأذى وملك موكل بفيه لا يدعه يدخل فيه شيء من الهوام يؤذيه فهؤلاء خمسة أملاك موكلون بالعبد في ليله وخمسة غيرهم في نهاره، فانظر إلى عظمة الله تعالى وقدرته وكمال شفقته عليك أيها العبد المسكين» وهو قوله تعالى: {من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله} يعني: يحفظون العبد من بين يديه ومن وراء ظهره، ومعنى من أمر الله بأمر الله وإذنه ما لم يجئ القدر فإذا جاء خلوا عنه. وقيل: معناه إنهم يحفظونه، بما أمر الله به من الحفظ له. قال مجاهد: ما من عبد إلا وملك موكل به يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام فما من شيء يأتيه يؤذيه إلا قال له الملك وراءك، إلا شيء يأذن الله فيه فيصيبه. وقال كعب الأحبار: لولا أن الله تعالى وكلَّ بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم لتخطفتكم الجن.
وقال ابن جريج: معنى يحفظونه أي يحفظون عليه الحسنات والسيئات، وهذا على قول من يقول: إن الآية في الملكين القاعدين عن اليمين وعن الشمال يكتبان الحسنات والسيئات، وقال عكرمة: الآية في الأمراء وحرسهم يحفظونهم من بين أيديهم، ومن خلفهم والضمير في قوله له راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال ابن عباس في معنى هذه الآية: لمحمد صلى الله عليه وسلم حراس من الرحمن من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من شر الجن وطوارق الليل والنهار. وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآية في عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة، وهما من بني عامر بن زيد وكانت قصتهما على ما رواه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس. قال: أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة وهما من بني عامر بن زيد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جالس في المسجد في نفر من أصحابه فدخل المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر، وكان من أجمل الناس وكان أعور فقال: يا رسول الله هذا عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك، فقال: دعه فان يرد الله به خيراً يهده فأقبل حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؟ قال: لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين. قال: تجعل الأمر لي بعدك؟ قال ليس ذلك لي إنما ذلك إلى الله يجعله حيث يشاء. قال: فتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال: لا قال: فما تجعل لي؟ قال: أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها. قال: أوليس ذلك لي اليوم قم معي أكلمك فقال معه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عامر قد أوصى إلى أربد بن ربيعة إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه فاضربه بالسيف، فجعل عامر يخاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويراجعه ودار أربد بن ربيعة من خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم لضربه، فاخترط شبراً من سيفه ثم حبسه الله تعالى عليه فلم يقدر على سله، وجعل عامر يومئ إليه فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى أربد وما صنع بسيفه، فقال: «اللهم اكفنيهما بما شئت» فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم صحو قائظ فأحرقته فولى عامر هارباً وقال: يا محمد دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً وشباباً مرداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يمنعني الله من ذلك وابنا قيلة» يريد الأوس والخزرج، فنزل عامر بيت امرأة سلولية فلما أصبح ضم إليه سلاحه، فخرج له خراج في أصل أذنه أخذه منه مثل النار فاشتد عليه فقال غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية، ثم ركب فرسه وجعل يركض في الصحراء، ويقول: ادن يا ملك الموت وجعل يقول الشعر، ويقول لئن أبصرت محمداً وصاحبه يعني ملك الموت لأنفذتهما برمحي فأرسل الله إليه ملكاً فلطمه، فأرداه في التراب ثم عاد فركب جواده حتى مات على ظهره، وأجاب الله عز وجل دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في عامر بن الطفيل فمات بالطعن، وأربد بن ربيعة مات بالصاعقة وأنزل الله عز وجل في شأن هذه القصة: {سواء منكم من أسر القول ومن جهر به} إلى قوله: {له معقبات من بين يديه ومن خلفه} يعني لرسول الله صلى الله عليه وسلم معقبات يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه من أمر الله أي بأمر الله وقيل: إن تلك المعقبات من أمر الله، وفيه تقديم وتأخير تقديره له معقباب من أمر الله يحفظونه من بين يديه ومن خلفه، وقوله: {إن الله لا يغير ما بقوم} خطاب لهذين عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة، يعني لا يغير ما بقوم من العافية والنعمة التي أنعم بها عليهم {حتى يغيروا ما بأنفسهم} يعني: من الحالة الجميلة فيعصون ربهم، ويجحدون نعمه عليهم فعند ذلك تحل نقمته بهم، وهو قوله تعالى: {وإذا أراد الله بقوم سوءاً} يعني هلاكاً وعذاباً {فلا مرد له} يعني لا يقدر أحد أن يرد ما أنزل الله بهم من قضائه وقدره {وما لهم من دونه من وال} يعني وليس لهم من دون الله من وال يلي أمرهم ونصرهم ويمنع العذاب عنهم.

1 | 2 | 3 | 4